مع حُلولِ اثنين الرّماد، ينطلقُ المؤمنون في رحلةٍ روحيّةٍ عميقةٍ في زمَنِ الصّوم الكبيرِ، حيثُ يتّخذون من هذا الزمنِ وسيلةً للتقرّبِ منَ اللهِ وتَنقيةِ القلبِ من كلِّ ما يُعيقُه عنِ النّور الإلهيِّ. اليوم، يُوضَع الرّمادُ على الجِباه، على شكلِ صليبٍ، كَتذكيرٍ بِفَناءِ الجسد وحقيقةِ الوجودِ البشريِّ الذي لا يكتمِل إلّا بالاتحادِ معَ الله: "أذكرْ يا إنسان أنّك منَ التُّراب والى التُّرابِ تعود".
يُعتبَر زمَنُ الصّومِ فترةً روحيّةً مُميّزةً منَ السّنةِ الطّقسيّة، تدعو المؤمنَ إلى التأمّل في حياتِه، وإعادةِ توجيهِها نحو مسيرةِ القداسة. إنّه وقتُ تُفتح فيه القلوبُ لاستقبال النّعمةِ، حيثُ يتخلّى الإنسانُ عنِ الشَّهَواتِ والمَلذّاتِ الزّائلةِ ليُركّزَ على الجوهرِ، على العَلاقة التي تربِطُه بالخالق. فالصّوم ليس مًجرّدَ امتناعٍ عنِ الطّعام، بل هو امتناعٌ عن كلِّ ما يُبعِدُ الرّوحَ عن مسيرتِها الحقيقيّة. إنّه نِداءٌ إلى الصَدَقة والمَغفِرةِ والمُصالحة، حيثُ يُدعى الإنسانُ إلى تخفيفِ ثِقْلِ قلبِه وتحريره منْ قيودِ الأنانيّةِ والكِبرياء. في الصّومِ الأربعينيّ، يعيشُ المؤمنُ أيضًا تجربةَ الجوعِ والعطشِ الّروحيِّ، متذكّرًا بأن "ليس بالخبز وحدَه يحيا الإنسان"، بلْ بكلمةِ الله وعملِه في حياته. فالصّومُ الكبيرُ هو مسيرةُ عُبورٍ منَ العتيقِ إلى الجديد، منَ الانشغالِ بالعالم إلى الاهتمامِ بالأبديّة. ومنْ خلاله، يجدُ المؤمنُ فرصةُ ليُجدِّدَ عهدَه معَ الله، فيصيرُ أكثرَ قُربًا منه عَبرَ الصّوم والصّلاةِ والمحبّةِ الصّادقةِ تِجاهَ القريب. هكذا، يبدأ المؤمنُ هذا الزمنَ المقدّسَ بِنِيَّةٍ صافية وقلبٍ متجدِّد، طالبًا النعمةً والقوّةَ ليُكمِلَ مسيرتَه نحو قيامةِ الرّبِّ يسوع، حيثُ يختبِر فرحَ الانتصارِ الحقيقيِّ، ليس فقط على الخطيئة، بل على كلِّ ما يمنعُه من أنْ يكونَ نورًا يعكِس حضورَالمسيحِ في العالمِ. الأب هــاني شــلالا المُرسَل اللُبناني عظة لعيد ميلاد سيِّدتنا مريم العذراءأُعطيت الأحد 8 أيلول 2024.
نجتمع اليوم حول العذراء مريم، أُمِّ الله وأُمِّنا، لنُهنِّئها بعيد ميلادها، مع جميع أبنائها المُنتشرين في كل أصقاعِ الأرض، لاسيما الذين ينتمون الى روحانيتها ويطلبون حمايتها ويعملون بهدايتها، وخاصةً فرسان وطلائع وشبيبة العذراء، وجميع الأخويات المريميّة، الذين يُجدِّدون اليوم تكرُّسهم لها والتمثُّل بفضائلها. "لا يوقدُ سِراجٌ ويوضعُ تحت المكيال، أو تحت السرير، بل على المنارة، ليرى الداخلون نورَه". إنَّ مريمَ ليست مُجرَّدَ سِراجٍ مُضاء، بل هي نجمةُ الصبحِ البهيَّة التي بشَّرَتْ بإشراقِ شمسِ الحقّ، يسوعَ المسيح، الذي أنارَ العالمَ بتجسُّدِه ومحبتِه ورحمته، بإنجيلِه وآياتِه ومُعجزاته، بآلامِه وموتِه ومجدِ قيامته. 1*. الى ماذا يرمزُ السِراج؟ إنَّه يرمزُ الى القلبِ المُلتهبِ بنارِ الروحِ القدس، نارِ المحبةِ المُشتعلة، النارِ التي نزلت على الرسل في العنصرة، والتي قال عنها يسوع: "جِئتُ لأُلقيَ على الأرضِ نارًا، وما أشدَّ رغبتي أن تكونَ قد اشتعلت" (لو12/49)، النارِ التي تتحوَّلُ الى نورٍ يُضيءُ لجميعِ الذين هم في البيت، بحسب قولِ الربِّ يسوع لتلاميذِه المؤمنين: "أنتم نورُ العالم... فليُضئ نورُكم للناس، ليروا أعمالَكم الصالحة، فيُمجِّدوا أباكم الذي في السماوات" (متى5/14، 16). 2*. الى ماذا يرمزُ المِكيال؟ إنَّه يرمزُ الى العقلِ البشري المحدودِ والمنطقِ الإنساني الضيِّق، المغلقِ على أمورِ الأرض، الذي يُحاولُ أن يُطفئَ نارَ الروحِ القدس، ويُخفيَ نورَ الحقيقة، لأنَّه عاجزٌ عن استيعابِ حقيقتِها، وفهمِ أسرارِها. 3*. الى ماذا يرمزُ السرير؟ إنَّه يرمزُ الى التراخي والكسلِ والنومِ واللامبالاةِ والاهمالِ والشهواتِ الجسديّة التي تُطفئُ نارَ الروح، وتحجبُ نورَ الإيمان. 4*. الى ماذا ترمزُ المنارة؟ إنَّها ترمزُ الى قِمَّةِ الإيمانِ الحيّ والمحبةِ المُضطرمة والشهادةِ للحق، قولاً وفعلاً، والى ذُروةِ الجهادِ الروحي، وعيشِ الفضائل، وتتميمِ الأعمالِ الصالحة. 5*. من هم الداخلون الى البيت؟ إنَّهم الأشخاصُ الذين سوف يقبلونَ الايمان، ويعتمدون باسم يسوع، ويدخلون هيكلَ الربّ، ويستنيرون بضياءِ شمسِ المسيح، ويتمتَّعون بنورِ والدتِة الكلّيةِ القداسة وملائكتِه وأبرارِه وقديسيه. من هي مريم بحسب الكتاب المقدَّس والتقليد الكنسي؟ وماذا تقول في نشيدها؟ 1*. إنَّ مريم هي حوَّاءُ الجديدة، المرأةُ الموعودة التي سيسحقُ نسلُها، أي يسوع، رأسَ الحيَّةِ القديمةِ ابليس، بحسب وعدِ الله الذي قال للحيَّة: "وأجعلُ عداوةً بينكِ وبين المرأة، وبين نسلكِ ونسلِها، فهو يسحقُ رأسَكِ وأنتِ تُصيبين عقِبَهُ" (تك3/15). فاللهُ لم يجعلِ العداوةَ بين الرجلِ والحيَّة، بل بين المرأة والحيَّة، لأنَّ نسلَ المرأةِ هو يسوع، ابنُ الله وابنُ الانسان، الذي سيسحقُ رأس الحيَّة، وهي ستُصيبُ عقِبَه، أي جسده الذي سيُرفعُ على الصليب. ولكنَّ المعركة الحقيقية ستكون بين حوَّاء الجديدة مريم، والحيَّة القديمة ابليس. 2*. إنَّ مريم هي الآية التي أعطاها الله لشعبه على لسان أشعيا النبي قائلاً: "ها إنَّ العذراءَ تحمِلُ فتلدُ ابنًا يُسمُّونَه "عِمَّانوئيل" أي "اللهُ معنا" (متى1/23؛ أش7/14). ولذلك كرَّمها اللهُ، فمَنَحَتْها الكنيسةُ لقبَ "الدائمة البتوليّة"، أي أصبحت أمٌّ وهي عذراء، قبل الميلاد وفيه وبعده. وقد صَوَّرَتْ الكنيسةُ هذه العقيدة في الإيقونةِ المريميّة التي حملت ثلاثة نجوم: واحدة على الكتف اليمين، وواحدة على الرأس، وواحدة على الكتف اليسار. 3*. إنَّ مريمَ هي الآيةُ العظيمة التي أعطاها اللهُ لشعبِه في سفرِ الرؤيا حيث يقول يوحنا: "ثمَّ ظهرت آيةٌ عظيمةٌ في السماء: اِمرأةٌ مُلتحفةٌ بالشمس، والقمرُ تحت قدميها، وعلى رأسِها إكليلٌ من اثني عشر كوكبًا" (رؤ12/1). فمريمُ هي المرأةُ المُلتحفةُ بابنها يسوع، شمسِ الحقيقة، والمُنتصرةُ على ابليس، حاملِ الظلمة، والمُكلَّلةُ بكواكبِ الرسلِ الاثني عشر... والتي تخوضُ المعركة ضدَّ التنّينِ الكبير، الحيَّةِ القديمة، إبليس الشيطان. 4*. إنَّها المرأةُ التي قدَّمتْ ساعة ابنِها يسوع في عُرسِ قانا الجليل، بقولِها له: "ليس عندهم خمر"، فأجابها يسوع: "ما لي ولكِ، أيتها المرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد"، ولكنَّه، بناءً على طلبها، أجرى الآية الأولى، وحوَّل الماء الى خمر، مقدِّمًا ساعة الآب، ساعةَ اعتلانِه للعالم، وساعة ارتفاعه على الصليب. وهي المرأة التي وقفتْ عند أقدامِ الصليب باكيةً صامتة، ليجعلَها ابنُها أُمًّا لتلميذِه يوحنا ومن خلالِه أُمًّا لجميعِ الرسلِ والمؤمنين. 5*. إنَّها المرأةُ التي كتبَ اللهُ اسمَها بأحرفٍ من نورٍ وبهاءٍ ومجد. وهي المرأةُ التي ناداها يسوع قائلاً: "يا امرأة" في قانا وعلى الصليب، فهل كان هذا النداء انتقاصًا من كرامتها واحتقارًا لها، أم تكريمًا وتعظيمًا لأُمومتِها؟ إنَّه أعظمُ تكريمٍ وتعظيم، لأنَّه جعلَها حوَّاءَ الجديدة، أي أُمَّ كلِّ الأحياءِ الذين سيولدون بالإيمان، وجعلها المرأةَ الأسمى والأعلى، وأقامها ملكةً على نساء العالمين، وسلطانة على السماوات والأرض. فليس من امرأة رفعها اللهُ الى أعلى السماوات على مثالها، لا قبلها ولا بعدها. إنَّها المرأة التي طوَّبتها الأجيال، وما زالت، وستطوِّبها على مدى الازمان، لأنَّ الربَّ صنع لها العظائم. فهل من امرأة نالت إكرامًا وتعظيمًا ومجدًا من مليارات البشر، على مدى التاريخ، مثل مريم؟ إنَّها أعظمُ وأرفعُ وأطهرُ وأقدسُ امرأةٍ عرفتها البشريّة. 6*. قالت مريم في نشيدها: "تعظِّمُ نفسي الربَّ، وتبتهجُ روحي بالله مُخلِّصي، لأنَّه نظر الى تواضع أمته، فها منذ الآن تُطوِّبني جميعُ الأجيال لأنَّ القدير صنع لي أمورًا عظيمة" (لو1/46-49). فما هي هذه الأمور العظيمة التي صنعها لها الربّ؟ 1+ لقد اختارها اللهُ على مثال إرميا النبي الذي كانت إليه كلمةُ الربِّ قائلاً: "قبل أن أُصوِّرَكَ في البطنِ عرفتُك، وقبل أن تخرجَ من الرَحِمِ قدَّستُكَ، وجعلتُكَ نبيًا للأُمم" (إر1/4-5)، وحفظَها من وصمةِ الخطيئةِ الأصليَّة على مثالِ حوَّاء، وجعلها قدسَ أقداسِ هيكلِ سُكناه، وبابًا يدخلُ منه يسوع الى العالم، وحُصنَ حمايةٍ وسفينةَ خلاصٍ لجميعِ الملتجئينَ إليها. 2+ لقد اختارها اللهُ لتكونَ أُمًا لابنه الوحيد، فاستحقت بذلك لقبًا فريدًا مُميَّزًا عظيمًا وهو "والدةُ الإله" أو "أمُّ الله" الذي أصبح أجمل ترنيمةٍ تتردَّدُ على ألسنتنا مُكرِّمين العذراء بها. وقد مجَّدها إبنُها في نهاية مسيرتها على الأرض فرفعها، على مثاله، نفسًا وجسدًا الى السماء، لتكونَ عربونَ رجاءٍ لكلِّ أبنائها في قيامةِ الأجساد والعبورِ الى الملكوت السماوي. 7*. يقول الربُّ يسوع: "من رآني رأى الآب" (يو14/9)، و"من لا يُكْرِمُ الابنَ، لا يُكْرِمُ الآبَ الذي أرسله" (يو5/23. ويقول أيضًا: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. فمن ثَبَتَ فيَّ، وثبتُّ أنا فيه، فذاك الذي يُثمرُ ثمرًا كثيرًا، لأنَّكم بدوني لا تستطيعون أن تعملوا شيئًا" (يو15/5) ). والخُلاصة هي: أنَّ الكرمة والجذورَ والأغصانَ واحد، كما أنَّ الآبَ والابنَ واحد، كما أنَّ الابنَ والأمَّ في المحبّةِ واحد، فمن يُكرِمُ الآبَ يُكرمُ الابنَ والأمَّ، ومن يحتقرُ الأمَّ يحتقرُ الآبَ الذي اختارها والابنَ الذي تجسّد منها وعظَّمَها. 8*. يقول الربُّ يسوع: "من لم يكن معي كان عليَّ، ومن لم يجمع معي كان مُبدِّدًا" (لو11/23)، أي هناك جبهتين لا ثالث لهما: جبهة يسوع ومن ينتمي إليه، وعلى رأسهم مريم والرسل والشهداء والقديسين والمؤمنين؛ وجبهة ابليس ومن ينتمي إليه، وعلى رأسهم المُلحدين والكافرين والأنبياء الكذبة والمرائين والمشعوذين والفاسدين والفاسقين. فمن يكفرُ بالمسيحِ الإله، أو من يحتقرُ مريمَ العذراء، أو من يستهزئُ بالقديسين، لا يمكنه أن يكونَ إلا من جبهةِ ابليس، لأنَّ الانسانَ لا يُمكنه أن يعبدَ ربّين، او أن ينتميَ الى سيِّدَين: يسوعَ وابليس. 9*. يُحذِّرُنا الرب يسوع قائلاً: "إياكم أن تحتقروا أحدًا من هؤلاء الصغار، أقول لكم إنَّ ملائكتهم في السماوات يُشاهدون أبدًا وجه أبي الذي في السماوات" (متى18/10)؛ ويُضيف في مشهد الدينونة الأخيرة: "إنَّ كلَّ ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه" (متى25/40). فإذا كان يُحذِّرُنا من احتقارِ الصغارِ الذين يُمثِّلونه على الأرض، فكم بالأحرى يُحذِّرُنا من احتقارِ والدتِه الكليّةِ القداسة وأبرارِه وقدِّيسيه؟ 10*. إن الشيطانَ لا يخجلُ من خسارةِ المعركةِ أمام الربِّ يسوع ابنِ الله، ولكنَّه يحمرُّ خجلاً من خسارة حربه ضدَّ العذراء مريم ابنةِ الطبيعةِ البشريةِ الضعيفة، إبنةِ آدم وحوَّاء. ولذلك سلَّم يسوع قيادة المعركة الى أُمِّه التي ما زالت تجوب العالم لكي تُحذِّر وتُنذر وتُشجِّع أبناءها على السهر الدائم، وتُسلّحهم بصلاة المسبحة والصوم والكتاب المقدَّس وثوب الكرمل والإيقونة العجائبية وسرَّي التوبة والقربان وغيرها: من غوادالوبي (المكسيك) الى لورد (فرنسا) الى فاطمة (البرتغال) الى مديوغوريه (البوسنة-هرتسوغوفين) الى بلدان عديدة غيرها... معلنة أن قلبَها الطاهرَ هو من سينتصرُ في النهاية، وعلى الأرجح على أرض لبنان الذي تكرَّس لقلبَي يسوع ومريم، على الأرضِ التي تقدَّست بدماءِ الشهداءِ والقديسين، وحيث تجمَّعتْ اليوم كلُّ شياطينِ الأرض لخوضِ معركةِ المصير. 11*. يقولُ لنا الربُّ يسوع أخيرًا: "لآ تخفْ أيّها القطيعُ الصغير، فقد حسُنَ لدى أبيكم أن يُنعمَ عليكم بالملكوت" (لو12/32). فنحن اليوم نواجه تحدّي كونِنا أصبحنا القطيعَ الصغير، ولكنَّ الربَّ لا يحتاجُ الى الأعدادِ الكبيرة ليُحقِّقَ النصر، فقد أخضعَ العالمَ لصليبه باثني عشر رسولاً فقيرًا ضعيفًا مُحتقرًا، ونصرَ داود الفتى الهزيلَ بمقلاعِه على جوليات الجبَّارِ المُدجَّجِ بالسلاحِ الذي أرهبَ كلَّ جيشِ إسرائيل (1صمو17)، ولم يُبقِ الربُّ من جيشِ جدعون إلا على ثلاثمئة، من أصلِ اثنين وثلاثين ألفًا، لكي يكون النصرُ، لا بقوَّة السيف، بل بقوة الايمان، ليعودَ الشكرُ والمجدُ لله، لا للبشر (قضاة 7). ولذلك علينا أن نتذكَّرَ في كلِّ حين، قولَ الربِّ يسوع: "سيكونُ لكم في العالمِ ضيق، ولكن تقوَّوا أنا غلبتُ العالم" (يو16/33). الأب حنّا داغر بالتأكيد، عندما نتحدّث عن الصلاة، فإنّنا نتحدّث عن الحياةِ أيضًا. لا يوجد حياةٌ خارج الصلاة، ولا صلاة دونَ حياة.
لقد قُلنا سابقًا إننا نصلّي كما نعيش؛ إذاً، صَلاتنا تعكسُ حياتنا، هي مرآة حياتنا، وحياتُنا هي إمتدادٌ لصَلاتنا. عمَلُ الرّوح القدس أساسيٌّ في حياتنا؛ هو يُنبوع حياتنا، وينبوع ُالحبّ، وينبوع الغُفران. إنّه روح الحقّ، وروح القداسة، وهو المُعزّي. هو الذي يَمنح سلامًا لقلوبِنا، ويفتحُ قلوبنا لمَعرفة الآب، وهو الذي يؤكّد فينا بُنوّتَنا لله. هو الذي يصلّي فينا عندما لا نعرف كيف نُصلّي. هو يَشفع فينا بأنّاتٍ لا توصف، كما يقول القدّيس بولس. هذا صحيح، فهو الذي يجعلُ الكلمةَ حياةً وجسداً فينا، وهو الذي يُجسِّد فينا البُنُوّة. لذا، بما أنّه المعزّي، فإنّنا لسنا بحاجةٍ لتَعزِيةٍ بَشريّةٍ؛ بما أنّه روحُ الحقّ، فهو يُطهّرنا من كلّ نِفاق؛ بما أنّه يُنبوع القداسة، فمَعَه لا ينقصنا شيء. هو مُلهِم حياتنا وأعمالنا وتصرُّفاتنا. هو الذي يفتح قلوبنَا لفَهم الكلمةِ التي تُغذّي حياتَنا وصلاتنا. نحن لا نُصلّي بمَشاعِرَ وتقوى خارجيّة، صلاتنا هي إصغاءُ كياننا إلى إلهاماتِ ربِّنا بِروحه الذي يقودنا الى القداسة، الى دعوتنا التي تّتصل بالله مُبدِء حياتنا ومُكمّلها. هو الذي يجعلنا مُتّحدينَ بالإبن الوحيد يسوع المسيح، لأنّه روح التبنّي الذي به نصرُخ لله: "يا أبانا السّماوي". إذاً، الرّوح القدُس هو أساس حياتنا، وهو مُبدأ ومُكمِّلُ حياتنا الرّوحيّة. إنّه فينا ينبوع الرّجاء الإلهي الذي لا يُخزى أبدًا، لأنّ محبّة الله قد أُفيضَتْ في قلوبِنا بهذا الرّوح القُدس. لذلك، وبِفضلِ الرّوح المُعزّي، ليس هناك أيُّ نوع منَ الصّعوبات، سَواء في الحياة الرّوحيّة أي في صلاة التّأمّل والإيمان، أو في الحياةِ العمليّة، يُمكنه أن يفصِلنا عنْ محبّة الله بيسوع، هذه المحبّة التي أُفيضتْ بروحه، لا صعوبة ولا شِدّة ولا ضيق ولا ضعف...لا شيء. حتى أنّه يُنقّي كياننا ويُطهّره من كلّ الشّوائب والخطايا. لأنّه روحُ الحقّ، هو الذي يُتوِّب قلوبنا إلى الله الحقّ والقداسة. ولأنّه روحٌ مُعَزٍّ فهو يَشفي جروحات نفوسِنا وأجسادنا الّتي حملناها في طفولتنا وتصرّفاتنا. إذاً، هذا هو الرّوح القدُس، يُنبوعُ حياتنا ورجاؤنا. هو الذي يقود حياتنا وصلاتنا، ويُلهمِ حياتنا وأعمالَنا وتصرّفاتنا، ويَشفي جروح كياننا النفسيّة والجسديّة. وبسببه، ونتيجةً لهذا الشفاء، نتعاملُ بدونِ جروح معَ الآخرين، نَتعامل بِروح الله، ينبوع المحبّة. فبدلاً من أن نَحكُم ونَدين، نعيش الغفرانَ والمحبّة. بدلاً من أن نَجرح لأننا مجروحون، فإن شفاءَ جروحنا يجعلُنا سَلاميّينَ في جميع علاقاتنا وتصرّفاتنا، وبالتأكيد، تُصبِح صلاتَنا أيضًا سلاميّة. الأب حنّا داغر مدير معهد الدراسات اللاهوتيّة والراعويّة في بيروت. الأب حنّا داغر في تأمّلي بالعلاقة بين صلاتي وحياتي، مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها: لماذا نُصلّي؟ كيف نصلّي؟ لِمَن نُصلّي؟ وماذا نصلّي؟ ماذا يتغيّر في حياتنا إذا صلّينا؟
نحن نصلّي لأنّنا بالفعل نجد ذاتنا في الصلاة. لهذا، فكيف أصلّي لا يعني ماذا أقول، وانّما كيف أضع نفسي في موضع إصغاء بالرّوح لإلهامات ربّنا. ليس ما أقوله أنا هو الّذي يُغيّر حياتي وانّما ما يقوله الربّ لي بإلهام الرّوح يُغيّر كلّ حياتي. لِمن نصلّي؟ نصلّي لمبدأ حياتنا. نحن لا نصلّي لإله مجهول وانّما نصلّي للّه كآب سماوي، لأبينا السّماوي. نقف أمامه وقفة الإبن، ونحن طبعًا مُتّحدين بالإبن الوحيد الرّب يسوع. نُصلّي إلى الآب أبانا. إلهنا ليس مجهولاً، لقد أظهر ذاته وأبوّته بإبنه، وأفاض فينا روحه، روح التّبنيّ بحيث نصرخ من داخلنا "أبانا السّماوي". ماذا نصلّي؟ نصلّي حياتنا، نصلّي كما نعيش، ونعيش كما نُحِب. الصّلاة هي مرآة الذّات والكيان والشّخص والإيمان. قاعدة الإيمان هي قاعدة الصّلاة. نحن نصلّي ما نؤمن به. إذا كنّا نؤمن بقداسته ونؤمن بحبّه ونؤمن بأبوّته فنحن سنتصل بقداسته وبحبّه وبأبوّته. الصّلاة ليست كلاماً مع اللّه، إنّها إصغاء لكلمة اللّه. مِن هنا يعمَل الرّوح ليجعل الكلمة فينا جسداً، يحفر فينا أيقونة الإبن الوحيد يسوع الّذي فيه اتّصال ووحدة في الآب. لذا فإن صلاتنا هي الّتي تُفَعّل حياتنا، هي التي تعطي نكهة ومعنى لحياتنا، وتؤكّد حياتنا مع اللّه. لا أستطيع أن أحيا بطريقة وأصلّي بطريقة مُغايرة، لا أستطيع أن أكون تقيّاً في الصّلاة ومُتّصلاً باللّه بحرارة روحيّة، وبعدها أنطلِق إلى العالَم بنِفاق، بكذب، بعدم محبّة، بِعدَم مسامحة، هذا يُسمّى ازدواجيّة حياة وإنفصام روحي. كأنّ لديّ حياتين، واحدة روحيّة تظهر بمنتهى القداسة عندما أكون متّصلاً بالرّب، وأُخرى لا علاقة لها باللّه. الله يُلهِم كلّ تصرّفاتي وكلّ أعمالي كي تُطابِق حياتي صلاتي وإلّا فسأكون خارج الجوهر وحياتي سطحيّة أو سأكون منافِقًا. إذاً صلاتي هي حياتي. الأب حنّا داغر مدير معهد الدراسات اللاهوتيّة والراعويّة في بيروت. الأب حنّا داغر في مسيرة البحث عن ماهيّة الصلاة المسيحيّة وأسسها، يُطرح السؤال: هل تُعتبر الصلاة واجبًا دينيًّا أم حاجة داخليّة؟
المقصود بالواجب الديني الوصيّة أو التقوى أو راحة الضمير، وهو ليس المحور الحقيقي للصلاة. حسب مفهومي للإنسان المخلوق على صورة اللّه والمميّز عن كلّ خلائقه، وكما أرى بإيماني أنّ كلّ خليقة منظورة أو غير منظورة موجودة لخدمة هذا الإنسان، حامل صورة اللّه بتفاصيل كيانه نفسًا وروحًا وجسدًا، باتت الصلاة جوابًا داخليًّا على عطشٍ كيانيٍّ كامنٍ في الإنسان منذ الخلق، لكونه على صورة اللّه. يعطش الإنسان إلى صورته، أي النبع الذي انبثقت حياته منه. من هنا، تأتي الصلاة جوابًا على عطش داخلي لنداء وضعه اللّه بروحه فيَّ، ولن أرتاح إلا إذا غصت في الجواب. لا يكفيني أن آكل وأشرب وأتعلّم وأكون مرتاحًا نفسيًّا في حين يتخبّط كياني بعدم الاستقرار والفراغ؛ هناك فجوة لأنّني لم أُجِب هذا العطش. إذًا، الصلاة هي حاجة كيانيّة ملحّة للعودة إلى الينبوع الذي يدعوني إلى الحياة الأبديّة والقداسة والاتصال بمبدأ كياني، ينبوع حياتي. إنّ الصلاة ليست واجبًا لإرضاء الضمير لأنّ اللّه لا يُحاسبني إذا لم أُصَلِّ. اللّه لا يزيد إذا أنا صلّيتُ ولا ينقص إذا لم أُصَلِّ، لكنّني أنا من يزيد عندما يتّصل بينبوع الحياة ويتقدّس، وأنا من ينقص كيانه إذا لم أتّصل بينبوع الحياة. الصلاة حاجة من أهمّ حاجات الإنسان، أهمّ من العلم والثقافة والمأكل والمشرب والملبس والصحّة الفيزيولوجيّة والنفسيّة. بالتالي، الصحّة الروحيّة هي الأكثر أهمّية إذ تؤكد معنى حياتي المتمثّل في اتّصالي بينبوعها. هذا ما يعطي توازنًا لكلّ أبعاد كياني النفسي والجسدي والإنساني والعاطفي والعملي والثقافي، وإلا فإنّ كلّ هذه الأمور لا معنى لها وتكون خارج الجوهر. الأب حنّا داغر مدير معهد الدراسات اللاهوتيّة والراعويّة في بيروت |
أكاديميّة الإنجيلتعمل أكاديميّة الإنجيل على تعميق المعرفة وتعزيز الوعي لمواضيع مرتبطة بعيش الإنجيل بهدف التجدّد الرّوحيّ وتغيير السلوك المسيحيّ من خلال التّطبيق الفعّال والعمليّ، لهذه المعرفة المُكتسَبة، في الحياة اليوميّة. للمزيد إنضم الى قناتنا على يوتيوب اليوم. إضغط هناأرشيف
March 2025
Categories
All
|