الأب حنّا داغر بالتأكيد، عندما نتحدّث عن الصلاة، فإنّنا نتحدّث عن الحياةِ أيضًا. لا يوجد حياةٌ خارج الصلاة، ولا صلاة دونَ حياة.
لقد قُلنا سابقًا إننا نصلّي كما نعيش؛ إذاً، صَلاتنا تعكسُ حياتنا، هي مرآة حياتنا، وحياتُنا هي إمتدادٌ لصَلاتنا. عمَلُ الرّوح القدس أساسيٌّ في حياتنا؛ هو يُنبوع حياتنا، وينبوع ُالحبّ، وينبوع الغُفران. إنّه روح الحقّ، وروح القداسة، وهو المُعزّي. هو الذي يَمنح سلامًا لقلوبِنا، ويفتحُ قلوبنا لمَعرفة الآب، وهو الذي يؤكّد فينا بُنوّتَنا لله. هو الذي يصلّي فينا عندما لا نعرف كيف نُصلّي. هو يَشفع فينا بأنّاتٍ لا توصف، كما يقول القدّيس بولس. هذا صحيح، فهو الذي يجعلُ الكلمةَ حياةً وجسداً فينا، وهو الذي يُجسِّد فينا البُنُوّة. لذا، بما أنّه المعزّي، فإنّنا لسنا بحاجةٍ لتَعزِيةٍ بَشريّةٍ؛ بما أنّه روحُ الحقّ، فهو يُطهّرنا من كلّ نِفاق؛ بما أنّه يُنبوع القداسة، فمَعَه لا ينقصنا شيء. هو مُلهِم حياتنا وأعمالنا وتصرُّفاتنا. هو الذي يفتح قلوبنَا لفَهم الكلمةِ التي تُغذّي حياتَنا وصلاتنا. نحن لا نُصلّي بمَشاعِرَ وتقوى خارجيّة، صلاتنا هي إصغاءُ كياننا إلى إلهاماتِ ربِّنا بِروحه الذي يقودنا الى القداسة، الى دعوتنا التي تّتصل بالله مُبدِء حياتنا ومُكمّلها. هو الذي يجعلنا مُتّحدينَ بالإبن الوحيد يسوع المسيح، لأنّه روح التبنّي الذي به نصرُخ لله: "يا أبانا السّماوي". إذاً، الرّوح القدُس هو أساس حياتنا، وهو مُبدأ ومُكمِّلُ حياتنا الرّوحيّة. إنّه فينا ينبوع الرّجاء الإلهي الذي لا يُخزى أبدًا، لأنّ محبّة الله قد أُفيضَتْ في قلوبِنا بهذا الرّوح القُدس. لذلك، وبِفضلِ الرّوح المُعزّي، ليس هناك أيُّ نوع منَ الصّعوبات، سَواء في الحياة الرّوحيّة أي في صلاة التّأمّل والإيمان، أو في الحياةِ العمليّة، يُمكنه أن يفصِلنا عنْ محبّة الله بيسوع، هذه المحبّة التي أُفيضتْ بروحه، لا صعوبة ولا شِدّة ولا ضيق ولا ضعف...لا شيء. حتى أنّه يُنقّي كياننا ويُطهّره من كلّ الشّوائب والخطايا. لأنّه روحُ الحقّ، هو الذي يُتوِّب قلوبنا إلى الله الحقّ والقداسة. ولأنّه روحٌ مُعَزٍّ فهو يَشفي جروحات نفوسِنا وأجسادنا الّتي حملناها في طفولتنا وتصرّفاتنا. إذاً، هذا هو الرّوح القدُس، يُنبوعُ حياتنا ورجاؤنا. هو الذي يقود حياتنا وصلاتنا، ويُلهمِ حياتنا وأعمالَنا وتصرّفاتنا، ويَشفي جروح كياننا النفسيّة والجسديّة. وبسببه، ونتيجةً لهذا الشفاء، نتعاملُ بدونِ جروح معَ الآخرين، نَتعامل بِروح الله، ينبوع المحبّة. فبدلاً من أن نَحكُم ونَدين، نعيش الغفرانَ والمحبّة. بدلاً من أن نَجرح لأننا مجروحون، فإن شفاءَ جروحنا يجعلُنا سَلاميّينَ في جميع علاقاتنا وتصرّفاتنا، وبالتأكيد، تُصبِح صلاتَنا أيضًا سلاميّة. الأب حنّا داغر مدير معهد الدراسات اللاهوتيّة والراعويّة في بيروت. الأب حنّا داغر في تأمّلي بالعلاقة بين صلاتي وحياتي، مجموعة من الأسئلة تطرح نفسها: لماذا نُصلّي؟ كيف نصلّي؟ لِمَن نُصلّي؟ وماذا نصلّي؟ ماذا يتغيّر في حياتنا إذا صلّينا؟
نحن نصلّي لأنّنا بالفعل نجد ذاتنا في الصلاة. لهذا، فكيف أصلّي لا يعني ماذا أقول، وانّما كيف أضع نفسي في موضع إصغاء بالرّوح لإلهامات ربّنا. ليس ما أقوله أنا هو الّذي يُغيّر حياتي وانّما ما يقوله الربّ لي بإلهام الرّوح يُغيّر كلّ حياتي. لِمن نصلّي؟ نصلّي لمبدأ حياتنا. نحن لا نصلّي لإله مجهول وانّما نصلّي للّه كآب سماوي، لأبينا السّماوي. نقف أمامه وقفة الإبن، ونحن طبعًا مُتّحدين بالإبن الوحيد الرّب يسوع. نُصلّي إلى الآب أبانا. إلهنا ليس مجهولاً، لقد أظهر ذاته وأبوّته بإبنه، وأفاض فينا روحه، روح التّبنيّ بحيث نصرخ من داخلنا "أبانا السّماوي". ماذا نصلّي؟ نصلّي حياتنا، نصلّي كما نعيش، ونعيش كما نُحِب. الصّلاة هي مرآة الذّات والكيان والشّخص والإيمان. قاعدة الإيمان هي قاعدة الصّلاة. نحن نصلّي ما نؤمن به. إذا كنّا نؤمن بقداسته ونؤمن بحبّه ونؤمن بأبوّته فنحن سنتصل بقداسته وبحبّه وبأبوّته. الصّلاة ليست كلاماً مع اللّه، إنّها إصغاء لكلمة اللّه. مِن هنا يعمَل الرّوح ليجعل الكلمة فينا جسداً، يحفر فينا أيقونة الإبن الوحيد يسوع الّذي فيه اتّصال ووحدة في الآب. لذا فإن صلاتنا هي الّتي تُفَعّل حياتنا، هي التي تعطي نكهة ومعنى لحياتنا، وتؤكّد حياتنا مع اللّه. لا أستطيع أن أحيا بطريقة وأصلّي بطريقة مُغايرة، لا أستطيع أن أكون تقيّاً في الصّلاة ومُتّصلاً باللّه بحرارة روحيّة، وبعدها أنطلِق إلى العالَم بنِفاق، بكذب، بعدم محبّة، بِعدَم مسامحة، هذا يُسمّى ازدواجيّة حياة وإنفصام روحي. كأنّ لديّ حياتين، واحدة روحيّة تظهر بمنتهى القداسة عندما أكون متّصلاً بالرّب، وأُخرى لا علاقة لها باللّه. الله يُلهِم كلّ تصرّفاتي وكلّ أعمالي كي تُطابِق حياتي صلاتي وإلّا فسأكون خارج الجوهر وحياتي سطحيّة أو سأكون منافِقًا. إذاً صلاتي هي حياتي. الأب حنّا داغر مدير معهد الدراسات اللاهوتيّة والراعويّة في بيروت. الأب حنّا داغر في مسيرة البحث عن ماهيّة الصلاة المسيحيّة وأسسها، يُطرح السؤال: هل تُعتبر الصلاة واجبًا دينيًّا أم حاجة داخليّة؟
المقصود بالواجب الديني الوصيّة أو التقوى أو راحة الضمير، وهو ليس المحور الحقيقي للصلاة. حسب مفهومي للإنسان المخلوق على صورة اللّه والمميّز عن كلّ خلائقه، وكما أرى بإيماني أنّ كلّ خليقة منظورة أو غير منظورة موجودة لخدمة هذا الإنسان، حامل صورة اللّه بتفاصيل كيانه نفسًا وروحًا وجسدًا، باتت الصلاة جوابًا داخليًّا على عطشٍ كيانيٍّ كامنٍ في الإنسان منذ الخلق، لكونه على صورة اللّه. يعطش الإنسان إلى صورته، أي النبع الذي انبثقت حياته منه. من هنا، تأتي الصلاة جوابًا على عطش داخلي لنداء وضعه اللّه بروحه فيَّ، ولن أرتاح إلا إذا غصت في الجواب. لا يكفيني أن آكل وأشرب وأتعلّم وأكون مرتاحًا نفسيًّا في حين يتخبّط كياني بعدم الاستقرار والفراغ؛ هناك فجوة لأنّني لم أُجِب هذا العطش. إذًا، الصلاة هي حاجة كيانيّة ملحّة للعودة إلى الينبوع الذي يدعوني إلى الحياة الأبديّة والقداسة والاتصال بمبدأ كياني، ينبوع حياتي. إنّ الصلاة ليست واجبًا لإرضاء الضمير لأنّ اللّه لا يُحاسبني إذا لم أُصَلِّ. اللّه لا يزيد إذا أنا صلّيتُ ولا ينقص إذا لم أُصَلِّ، لكنّني أنا من يزيد عندما يتّصل بينبوع الحياة ويتقدّس، وأنا من ينقص كيانه إذا لم أتّصل بينبوع الحياة. الصلاة حاجة من أهمّ حاجات الإنسان، أهمّ من العلم والثقافة والمأكل والمشرب والملبس والصحّة الفيزيولوجيّة والنفسيّة. بالتالي، الصحّة الروحيّة هي الأكثر أهمّية إذ تؤكد معنى حياتي المتمثّل في اتّصالي بينبوعها. هذا ما يعطي توازنًا لكلّ أبعاد كياني النفسي والجسدي والإنساني والعاطفي والعملي والثقافي، وإلا فإنّ كلّ هذه الأمور لا معنى لها وتكون خارج الجوهر. الأب حنّا داغر مدير معهد الدراسات اللاهوتيّة والراعويّة في بيروت |
أكاديميّة الإنجيلتعمل أكاديميّة الإنجيل على تعميق المعرفة وتعزيز الوعي لمواضيع مرتبطة بعيش الإنجيل بهدف التجدّد الرّوحيّ وتغيير السلوك المسيحيّ من خلال التّطبيق الفعّال والعمليّ، لهذه المعرفة المُكتسَبة، في الحياة اليوميّة. للمزيد إنضم الى قناتنا على يوتيوب اليوم. إضغط هناأرشيف
March 2025
Categories
All
|