البابا بنديكتوس السادس عشر
المقابلة العّامة 15 حزيران 2011
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
في التاريخ الديني لإسرائيل القديم، يحتل الأنبياء مرتبة هامة من خلال تعليمهم ووعظهم. تلمع في ما بينهم شخصية إيليا، الذي أقامه الله لكي يحمل الشعب إلى التوبة. اسمه يعني: "الرب هو إلهي"، وتجري مجريات حياته بشكل يتطابق مع هذا الإسم، إذ يكرسها كلها لحث الشعب على الاعتراف بالرب كالإله الوحيد. يقول لنا ابن سيراخ عن إيليا: "وقام النبي إيليا، مثل النار؛ كلمته كانت تتقد مثل شعلة" (سير 48، 1). من خلال هذه الشعلة يجد إسرائيل دربه نحو الله. في خدمته كان إيليا يصلي: يدعو الرب لكي يعيد إلى الحياة ابن الأرملة التي كانت تستضيفه (راجع 1 مل 17، 17 – 24)، يصرخ إلى الله مبرزًا تعبه وبؤسه بينما يهرب في الصحراء في وقت كانت إيزابيل الملكة تطلبه لتقتله (راجع 1 مل 19، 1 – 4)، ولكن بشكل خاص تظهر على جبل الكرمل قوته كشفيع عندما، أمام كل شعب إسرائيل، يصلي إلى الرب لكي يظهر ويرد قلب الشعب. إنه الحدث الذي يخبرنا عنه الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الأول، وهو النص الذي سننظر فيه مليًا اليوم.
نجد أنفسنا في مملكة الشمال، في القرن التاسع قبل المسيح، في زمن الملك آحاب، في وقت كان إسرائيل يعيش فيه في حالة ضياع ومزج بين عبادات مختلفة. إلى جانب الرب، كان الرب يعبد بعل، الوثن الذي يعطي الأمان والذي كان يُظن أنه يعطي هبة المطر وكان يُنسب إليه سلطان الخصب في الحقول والحياة للبشر وللحيوانات. رغم أنه كان يزعم أنه يتبع الرب، الإله اللامنظور والغامض، إلا أن الشعب كان يطلب الأمان في إله مفهوم ويمكن توقع تصرفاته، ويمكن أن يُنال منه الخصب والرخاء مقابل الذبائح. كان إسرائيل يخضع لغيّ عبادة الأوثان، وهي تجربة المؤمن المستمرة، حيث يعتقد أنه يستطيع أن "يعبد ربّين" (راجع مت 6، 24؛ لو 16، 13)، وأن يسهّل درب الإيمان في الكلي القدرة من خلال وضع ثقته في إله ضعيف تصنعه أيدي البشر.
ولتبيان حماقة وخداع هذا الموقف، دعا إيليا شعب إسرائيل لكي يجتمع على جبل الكرمل، لكي يضعه أمام ضرورة الخيار: "إذا كان الرب هو الله فاتبعوه، وإذا كان البعد فاتبعوا البعل" (1 مل 18، 21). والنبي، حامل حب الله، لا يترك الشعب وحيدًا في هذا الخيار، بل يساعده مقدمًا العلامة التي تُظهر الحقيقة: فيحضر مثل أنبياء بعل ذبيحة ويصلوا، والإله الحق يُظهر نفسه من خلال النار التي تأكل الذبيحة. تبدأ بهذا الشكل المواجهة بين النبي إيليا وأتباع البعل، وبالحقيقة المواجهة بين الرب إله إسرائيل، إله الخلاص والحياة، والصنم الأبكم والرثيث، الذي لا يستطيع أن يفعل شيئًا، لا خيرًا ولا شرًا (راجع إر 10، 5). وتبدأ بهذا الشكل المواجهة بين نوعين مختلفين تمامًا من التوجه إلى الله ومن الصلاة.
ويصرخ أنبياء بعل ويقفزون ويدخلون في حالة انخطاف ويصلون إلى جرح أجسامهم، "بالسيوف والرماح، إلى أن يتضمخوا بالدماء" (1 مل 18، 28). يلجأون إلى ذواتهم لكي يفسروا إلههم، متكلين على مقدراتهم لكي ينالوا منه الجواب. يظهر بهذا الشكل طبع الصنم المخادع: فالإنسان ينظر إلى الصنم كشيء يستطيع أن يتصرف به على هواه، ويستطيع أن يحركه بقوته الذاتية، وأن يصل إليه انطلاقًا من ذاته ومن قوته الحياتية. إن عبادة الصنم، بدل أن تفتح قلب الإنسان على الآخرية، على علاقة محررة تسمح له بالخروج من فسحة الأنانية الضيقة للولوج في بعد الحب وهبة الذات المتبادلة، تُغلق الإنسان في حلقة مفرغة من البحث عن الذات. والخداع هو كبير لدرجة أنه الإنسان، من خلال عبادة الوثن، يجد نفسه مُرغمًا على تصرفات متطرفة، في بحثه الخادع عن إخضاع الوثن لذاته. ولهذا يصل أنبياء بعل إلى أذية ذواتهم، ويجرحوا أجسادهم، في تصرف هزلي ومأساوي: للحصول على جواب، على علامة حياة من إلههم، يتضججون بالدماء، فيغطون ذواتهم رمزيًا بالموت.
أما موقف صلاة إيليا فهو مختلف بالكلية. فهو يطلب إلى الشعب أن يقترب ويُشركه في عمله وفي دعائه. الهدف من التحدي الذي يوجهه إلى أنباء بعل هو أن يحمل الشعب الذي ضل وراء الأصنام لكي يعود إلى الله؛ لهذا هو يريد أن يتحد إسرائيل به، فيضحي شريكًا وفاعلاً في صلاته وفي الحدث. ثم يقيم النبي مذبحًا، ويستخدم، بحسب النص: "أخذ إيليا آثني عشر حجرا، على عدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه قائلا: إسرائيل يكون اسمك" (آية 31). تمثل تلك الحجارة كل إسرائيل وهي التذكار الملموس لكل تاريخ الانتخاب، والاختيار والخلاص الذي كان موضوعه شعب إسرائيل بالذات. البادرة الليتورجية التي يقوم بها إيليا لها معنى هام؛ المذبح هو المكان المقدس الذي يشير إلى حضور الرب، وتلك الحجارة التي تؤلفه تشكل الشعب الذي، بواسطة النبي، يقوم الآن في حضرة الله، يضحي مذبحًا، موضع تقدمة وذبيحة.
ولكن من الضرورة بمكان أن يضحي الرمز حقيقة، وأن يتعرف إسرائيل على الإله الحق وأن يجد هويته كشعب الرب. ولهذا يطلب إيليا إلى الرب أن يُظهر نفسه، والاثنا عشر حجرًا إنما أرادت أن تذكر إسرائيل بحقيقته، وأيضًا أن تذكر الرب بأمانته، تلك الأمانة التي يتوجه النبي إليها بالصلاة. كلمات دعائه هي غنية بالمعنى وبالإيمان: "أيها الرب إله إبراهيم، وإسحق وإسرائيل، فليُعرف اليوم أنك الله في إسرائيل وأنني أنا عبدك، وأني فعلت هذا الأمور بحسب كلمتك. استجبني يا رب، استجبني، وليعرف هذا الشعب أنك الله ويرتد قلبهم إليك" (الآيات 36 – 37؛ راجع سفر التكوين 32، 36 – 37).
يتوجه إيليا إلى الرب ويدعوه إله الآباء، لافتًا بذلك إلى ذكرى الوعود الإلهية وتاريخ الانتخاب والعهد الذي ربط الرب بشكل وطيد بشعبه. إن انخراط الرب في تاريخ البشر هو حميم لدرجة أن اسمه يرتبط باسم الآباء والنبي يدعوه بذلك الاسم لكي يذكر الرب ويُظهر أمانته، وأيضًا لكي يشعر إسرائيل بأنه مدعو باسمه ولكي يجد الأمانة. إن الاسم الإلهي الذي تلفظ به إيليا يبدو إلى حد ما مفاجئًا. فبدل أن يستخدم صيغة: "إله إبراهيم، إسحق ويعقوب" نراه يستعمل اسمًا أقل انتشارًا: "إله إبراهيم، إسحق وإسرائيل". استبدال اسم يعقوب بإسرائيل يذكرنا بصراع يعقوب في معبر يبوق، حيث تم تبديل اسمه (راجع تك 32، 31). وقد سبق أن تحدثت عن هذا النص في إحدى التعاليم السابقة. تحتل تلك الحالة قيمة غنية في إطار دعاء إيليا. فالنبي يصلي من أجل شعب الشمال، الذي كان يدعى شعب إسرائيل، والذي كان مختلفًا عن يهوذا، مملكة الجنوب. والآن، هذا الشعب، الذي يبدو وكأنه قد نسي أصله وعلاقته المميزة مع الرب، يرى أنه يتم استدعاءه في الوقت الذي يُدعى باسم الله، إله الآباء وإله الشعب: "أيها الرب، إله [...] إسرائيل، فليعرف اليوم أنك أنت إله إسرائيل".
يقف الشعب الذي يصلي إيليا لأجله أمام حقيقته، ويطلب الرب أن تظهر حقيقة الرب وأن يتدخل لكي يرد إسرائيل، مخلصًا إياه من خداع الأصنام وحاملاً إليه الخلاص. طلبه هو أن يعرف الشعب ملء المعرفة من هو الله حقًا، ويقوم بخيار نهائي أن يتبعه هو وحده، الإله الحق. لأنه بهذا الشكل فقط يُعرف الله على ما هو عليه، الإله المطلق والمتسامي، الذي لا يمكن وضعه إلى جانب سائر الآلهة التي تنفي بهذا الشكل كيانه المطلق وتجعله نسبيًا. هذا هو الإيمان الذي يجعل من إسرائيل شعب الله؛ إنه الإيمان الذي يُعلن في نص "اسمع يا إسرائيل": "«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ"( تث 6، 4 – 5). يجب على المؤمن أن يجيب على مطلق الله بحب مطلق، كامل، يُلزم كل الحياة والقوى والقلب. والنبي يطلب من خلال الصلاة إرتداد قلب شعبه: "فليعرف، أيها الرب، هذا الشعب أنك الله وليرتد قلبه إليك" (1 مل 18، 37). يطلب إيليا بشفاعته إلى الله ما يريد الله أن يفعله، أي أن يبين عن رحمته، الأمينة لحقيقته كرب الحياة الذي يغفر، يردّ، ويحوّل.
وهذا ما يحدث الضبط: " فهبطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، حتى لحست الماء الذي في القناة. : فلما رأى ذلك كل الشعب سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الإله، الرب هو الإله" (الآيات 38 و 39). النار، ذلك العنصر الذي هو في الوقت عينه ضروري ومخيف، المرتبط بالظهور الإلهي في العليقة الملتهبة في سيناء، يهدف الآن إلى إظهار حب الله الذي يجيب على الصلاة ويعلن نفسه لشعبه. البعل، الإله الأبكم والمنعدم القوى، لم يجب على صلوات أنبايئه؛ أما الرب فيجيب، وبشكل واضح، لا يحرق التقدمة وحسب، بل يجفف كل الماء الذي أفيض حول المذبح. لا يمكن أن يشعر إسرائيل بشكوك؛ لقد جاءت الرحمة الإلهية للقاء ضعفه، وشكوكه وقلة إيمانه. والآن البعل، الإله الباطل، قد خسر، والشعب الذي كان يبدو وكأنه قد خسر، وجد الطريق إلى الحق ولاقى ذاته من جديد.
أيها الإخوة والاخوات، ماذا تقول لنا هذه القصة من الماضي؟ ما هو الحاضر في هذه القصة؟ قبل كل شيء، هناك أولوية الوصية الأولى: اعبد الرب وحده. حيث يختفي الله يقع الإنسان في عبودية الاوثان، كما بينت لنا في زماننا الأنظمة التوتاليتارية، وكما تبين مختلف أشكال العدمية، التي تجعل الإنسان يعتمد على الاوثان وعلى عبادتها؛ هذه الأوثان تسحق الإنسان.
ثانيًا. الهدف الأول من الصلاة هو الارتداد: نار الله التي تحول قلب الإنسان وتجعلنا قادرين أن نرى الله وأن نعيش بحسب الله وأن نعيش لأجل الآخرين.
والنقطة الثالثة: يقول لنا آباء الكنيسة أن هذه القصة أيضًا، قصة النبي، هي نبوية، إذ شكلت ظلاً للمستقبل، للمسيح المستقبلي؛ هي خطوة في المسيرة نحو المسيح. ويقولون لنا أننا نرى هنا نار الله الحقة: الحب الذي يقود الرب نحو الصليب، وصولاً إلى هبة الذات الكاملة. عبادة الله الحقة، إذا، هي أن نهب ذاتنا إلى الله وإلى البشر، العبادة الحقة هي الحب. والعبادة الحقة لله لا تُدمّر، بل تجدد وتحوّل. بالطبع، نار الله، نار الحب يحرق، يحول، يطهّر، ولكن لهذا بالتحديد لا يدمر، بل يخلق الحقيقة في كياننا، يعيد خلق قلبنا. وبهذا الشكل، إذ تحيينا حقًا نار الروح القدس، نار حب الله، نستطيع أن نكون عبادًا بالروح والحق. شكرًا.
في التاريخ الديني لإسرائيل القديم، يحتل الأنبياء مرتبة هامة من خلال تعليمهم ووعظهم. تلمع في ما بينهم شخصية إيليا، الذي أقامه الله لكي يحمل الشعب إلى التوبة. اسمه يعني: "الرب هو إلهي"، وتجري مجريات حياته بشكل يتطابق مع هذا الإسم، إذ يكرسها كلها لحث الشعب على الاعتراف بالرب كالإله الوحيد. يقول لنا ابن سيراخ عن إيليا: "وقام النبي إيليا، مثل النار؛ كلمته كانت تتقد مثل شعلة" (سير 48، 1). من خلال هذه الشعلة يجد إسرائيل دربه نحو الله. في خدمته كان إيليا يصلي: يدعو الرب لكي يعيد إلى الحياة ابن الأرملة التي كانت تستضيفه (راجع 1 مل 17، 17 – 24)، يصرخ إلى الله مبرزًا تعبه وبؤسه بينما يهرب في الصحراء في وقت كانت إيزابيل الملكة تطلبه لتقتله (راجع 1 مل 19، 1 – 4)، ولكن بشكل خاص تظهر على جبل الكرمل قوته كشفيع عندما، أمام كل شعب إسرائيل، يصلي إلى الرب لكي يظهر ويرد قلب الشعب. إنه الحدث الذي يخبرنا عنه الفصل الثامن عشر من سفر الملوك الأول، وهو النص الذي سننظر فيه مليًا اليوم.
نجد أنفسنا في مملكة الشمال، في القرن التاسع قبل المسيح، في زمن الملك آحاب، في وقت كان إسرائيل يعيش فيه في حالة ضياع ومزج بين عبادات مختلفة. إلى جانب الرب، كان الرب يعبد بعل، الوثن الذي يعطي الأمان والذي كان يُظن أنه يعطي هبة المطر وكان يُنسب إليه سلطان الخصب في الحقول والحياة للبشر وللحيوانات. رغم أنه كان يزعم أنه يتبع الرب، الإله اللامنظور والغامض، إلا أن الشعب كان يطلب الأمان في إله مفهوم ويمكن توقع تصرفاته، ويمكن أن يُنال منه الخصب والرخاء مقابل الذبائح. كان إسرائيل يخضع لغيّ عبادة الأوثان، وهي تجربة المؤمن المستمرة، حيث يعتقد أنه يستطيع أن "يعبد ربّين" (راجع مت 6، 24؛ لو 16، 13)، وأن يسهّل درب الإيمان في الكلي القدرة من خلال وضع ثقته في إله ضعيف تصنعه أيدي البشر.
ولتبيان حماقة وخداع هذا الموقف، دعا إيليا شعب إسرائيل لكي يجتمع على جبل الكرمل، لكي يضعه أمام ضرورة الخيار: "إذا كان الرب هو الله فاتبعوه، وإذا كان البعد فاتبعوا البعل" (1 مل 18، 21). والنبي، حامل حب الله، لا يترك الشعب وحيدًا في هذا الخيار، بل يساعده مقدمًا العلامة التي تُظهر الحقيقة: فيحضر مثل أنبياء بعل ذبيحة ويصلوا، والإله الحق يُظهر نفسه من خلال النار التي تأكل الذبيحة. تبدأ بهذا الشكل المواجهة بين النبي إيليا وأتباع البعل، وبالحقيقة المواجهة بين الرب إله إسرائيل، إله الخلاص والحياة، والصنم الأبكم والرثيث، الذي لا يستطيع أن يفعل شيئًا، لا خيرًا ولا شرًا (راجع إر 10، 5). وتبدأ بهذا الشكل المواجهة بين نوعين مختلفين تمامًا من التوجه إلى الله ومن الصلاة.
ويصرخ أنبياء بعل ويقفزون ويدخلون في حالة انخطاف ويصلون إلى جرح أجسامهم، "بالسيوف والرماح، إلى أن يتضمخوا بالدماء" (1 مل 18، 28). يلجأون إلى ذواتهم لكي يفسروا إلههم، متكلين على مقدراتهم لكي ينالوا منه الجواب. يظهر بهذا الشكل طبع الصنم المخادع: فالإنسان ينظر إلى الصنم كشيء يستطيع أن يتصرف به على هواه، ويستطيع أن يحركه بقوته الذاتية، وأن يصل إليه انطلاقًا من ذاته ومن قوته الحياتية. إن عبادة الصنم، بدل أن تفتح قلب الإنسان على الآخرية، على علاقة محررة تسمح له بالخروج من فسحة الأنانية الضيقة للولوج في بعد الحب وهبة الذات المتبادلة، تُغلق الإنسان في حلقة مفرغة من البحث عن الذات. والخداع هو كبير لدرجة أنه الإنسان، من خلال عبادة الوثن، يجد نفسه مُرغمًا على تصرفات متطرفة، في بحثه الخادع عن إخضاع الوثن لذاته. ولهذا يصل أنبياء بعل إلى أذية ذواتهم، ويجرحوا أجسادهم، في تصرف هزلي ومأساوي: للحصول على جواب، على علامة حياة من إلههم، يتضججون بالدماء، فيغطون ذواتهم رمزيًا بالموت.
أما موقف صلاة إيليا فهو مختلف بالكلية. فهو يطلب إلى الشعب أن يقترب ويُشركه في عمله وفي دعائه. الهدف من التحدي الذي يوجهه إلى أنباء بعل هو أن يحمل الشعب الذي ضل وراء الأصنام لكي يعود إلى الله؛ لهذا هو يريد أن يتحد إسرائيل به، فيضحي شريكًا وفاعلاً في صلاته وفي الحدث. ثم يقيم النبي مذبحًا، ويستخدم، بحسب النص: "أخذ إيليا آثني عشر حجرا، على عدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه قائلا: إسرائيل يكون اسمك" (آية 31). تمثل تلك الحجارة كل إسرائيل وهي التذكار الملموس لكل تاريخ الانتخاب، والاختيار والخلاص الذي كان موضوعه شعب إسرائيل بالذات. البادرة الليتورجية التي يقوم بها إيليا لها معنى هام؛ المذبح هو المكان المقدس الذي يشير إلى حضور الرب، وتلك الحجارة التي تؤلفه تشكل الشعب الذي، بواسطة النبي، يقوم الآن في حضرة الله، يضحي مذبحًا، موضع تقدمة وذبيحة.
ولكن من الضرورة بمكان أن يضحي الرمز حقيقة، وأن يتعرف إسرائيل على الإله الحق وأن يجد هويته كشعب الرب. ولهذا يطلب إيليا إلى الرب أن يُظهر نفسه، والاثنا عشر حجرًا إنما أرادت أن تذكر إسرائيل بحقيقته، وأيضًا أن تذكر الرب بأمانته، تلك الأمانة التي يتوجه النبي إليها بالصلاة. كلمات دعائه هي غنية بالمعنى وبالإيمان: "أيها الرب إله إبراهيم، وإسحق وإسرائيل، فليُعرف اليوم أنك الله في إسرائيل وأنني أنا عبدك، وأني فعلت هذا الأمور بحسب كلمتك. استجبني يا رب، استجبني، وليعرف هذا الشعب أنك الله ويرتد قلبهم إليك" (الآيات 36 – 37؛ راجع سفر التكوين 32، 36 – 37).
يتوجه إيليا إلى الرب ويدعوه إله الآباء، لافتًا بذلك إلى ذكرى الوعود الإلهية وتاريخ الانتخاب والعهد الذي ربط الرب بشكل وطيد بشعبه. إن انخراط الرب في تاريخ البشر هو حميم لدرجة أن اسمه يرتبط باسم الآباء والنبي يدعوه بذلك الاسم لكي يذكر الرب ويُظهر أمانته، وأيضًا لكي يشعر إسرائيل بأنه مدعو باسمه ولكي يجد الأمانة. إن الاسم الإلهي الذي تلفظ به إيليا يبدو إلى حد ما مفاجئًا. فبدل أن يستخدم صيغة: "إله إبراهيم، إسحق ويعقوب" نراه يستعمل اسمًا أقل انتشارًا: "إله إبراهيم، إسحق وإسرائيل". استبدال اسم يعقوب بإسرائيل يذكرنا بصراع يعقوب في معبر يبوق، حيث تم تبديل اسمه (راجع تك 32، 31). وقد سبق أن تحدثت عن هذا النص في إحدى التعاليم السابقة. تحتل تلك الحالة قيمة غنية في إطار دعاء إيليا. فالنبي يصلي من أجل شعب الشمال، الذي كان يدعى شعب إسرائيل، والذي كان مختلفًا عن يهوذا، مملكة الجنوب. والآن، هذا الشعب، الذي يبدو وكأنه قد نسي أصله وعلاقته المميزة مع الرب، يرى أنه يتم استدعاءه في الوقت الذي يُدعى باسم الله، إله الآباء وإله الشعب: "أيها الرب، إله [...] إسرائيل، فليعرف اليوم أنك أنت إله إسرائيل".
يقف الشعب الذي يصلي إيليا لأجله أمام حقيقته، ويطلب الرب أن تظهر حقيقة الرب وأن يتدخل لكي يرد إسرائيل، مخلصًا إياه من خداع الأصنام وحاملاً إليه الخلاص. طلبه هو أن يعرف الشعب ملء المعرفة من هو الله حقًا، ويقوم بخيار نهائي أن يتبعه هو وحده، الإله الحق. لأنه بهذا الشكل فقط يُعرف الله على ما هو عليه، الإله المطلق والمتسامي، الذي لا يمكن وضعه إلى جانب سائر الآلهة التي تنفي بهذا الشكل كيانه المطلق وتجعله نسبيًا. هذا هو الإيمان الذي يجعل من إسرائيل شعب الله؛ إنه الإيمان الذي يُعلن في نص "اسمع يا إسرائيل": "«اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ"( تث 6، 4 – 5). يجب على المؤمن أن يجيب على مطلق الله بحب مطلق، كامل، يُلزم كل الحياة والقوى والقلب. والنبي يطلب من خلال الصلاة إرتداد قلب شعبه: "فليعرف، أيها الرب، هذا الشعب أنك الله وليرتد قلبه إليك" (1 مل 18، 37). يطلب إيليا بشفاعته إلى الله ما يريد الله أن يفعله، أي أن يبين عن رحمته، الأمينة لحقيقته كرب الحياة الذي يغفر، يردّ، ويحوّل.
وهذا ما يحدث الضبط: " فهبطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب، حتى لحست الماء الذي في القناة. : فلما رأى ذلك كل الشعب سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الإله، الرب هو الإله" (الآيات 38 و 39). النار، ذلك العنصر الذي هو في الوقت عينه ضروري ومخيف، المرتبط بالظهور الإلهي في العليقة الملتهبة في سيناء، يهدف الآن إلى إظهار حب الله الذي يجيب على الصلاة ويعلن نفسه لشعبه. البعل، الإله الأبكم والمنعدم القوى، لم يجب على صلوات أنبايئه؛ أما الرب فيجيب، وبشكل واضح، لا يحرق التقدمة وحسب، بل يجفف كل الماء الذي أفيض حول المذبح. لا يمكن أن يشعر إسرائيل بشكوك؛ لقد جاءت الرحمة الإلهية للقاء ضعفه، وشكوكه وقلة إيمانه. والآن البعل، الإله الباطل، قد خسر، والشعب الذي كان يبدو وكأنه قد خسر، وجد الطريق إلى الحق ولاقى ذاته من جديد.
أيها الإخوة والاخوات، ماذا تقول لنا هذه القصة من الماضي؟ ما هو الحاضر في هذه القصة؟ قبل كل شيء، هناك أولوية الوصية الأولى: اعبد الرب وحده. حيث يختفي الله يقع الإنسان في عبودية الاوثان، كما بينت لنا في زماننا الأنظمة التوتاليتارية، وكما تبين مختلف أشكال العدمية، التي تجعل الإنسان يعتمد على الاوثان وعلى عبادتها؛ هذه الأوثان تسحق الإنسان.
ثانيًا. الهدف الأول من الصلاة هو الارتداد: نار الله التي تحول قلب الإنسان وتجعلنا قادرين أن نرى الله وأن نعيش بحسب الله وأن نعيش لأجل الآخرين.
والنقطة الثالثة: يقول لنا آباء الكنيسة أن هذه القصة أيضًا، قصة النبي، هي نبوية، إذ شكلت ظلاً للمستقبل، للمسيح المستقبلي؛ هي خطوة في المسيرة نحو المسيح. ويقولون لنا أننا نرى هنا نار الله الحقة: الحب الذي يقود الرب نحو الصليب، وصولاً إلى هبة الذات الكاملة. عبادة الله الحقة، إذا، هي أن نهب ذاتنا إلى الله وإلى البشر، العبادة الحقة هي الحب. والعبادة الحقة لله لا تُدمّر، بل تجدد وتحوّل. بالطبع، نار الله، نار الحب يحرق، يحول، يطهّر، ولكن لهذا بالتحديد لا يدمر، بل يخلق الحقيقة في كياننا، يعيد خلق قلبنا. وبهذا الشكل، إذ تحيينا حقًا نار الروح القدس، نار حب الله، نستطيع أن نكون عبادًا بالروح والحق. شكرًا.